إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مــات وهو يضحـك عـلى زمـن عمى الألوان.. تيســــير السـعدي.. الضـاحـك الباكي يغيب فــي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مــات وهو يضحـك عـلى زمـن عمى الألوان.. تيســــير السـعدي.. الضـاحـك الباكي يغيب فــي

    مئة عام تقريباً عاشها فنان خيال الظل الدمشقي، ممرراً يديه على شاشة هذا العالم؛ بطلته الشامية العذبة، وصوته الأبوي الذي عرفه الجمهور ستينيات القرن الفائت عبر أثير إذاعة دمشق، مكرساً عبر قرنٍ من الحياة قيم ومثل الفنان الملتزم والمتفاني من أجل ما آمن به وخبره عن قرب منذ نعومة أظفاره في خيم الكراكوزاتية وحلقات الذكر الصوفية؛ حيث أمضى تيسير السعدي طفولته في حي ساروجة الذي ولد فيه عام 1917؛ العام الذي سبق دخول الملك فيصل ابن الحسين إلى دمشق بعد مهاجمته لمراكز العثمانيين في جنوب الأردن؛ وانعقاد المؤتمر السوري عام 1917؛ معلناً استقلال البلاد السورية وتنصيب فيصل ملكاً دستورياً عليها؛ وقتذاك كان ذلك الطفل يتعلم في كتّاب «باب القوافين» في الجامع الأموي، ليدرس بعد ذلك في مدرسة البحصة «المدرسة الرشيدية» الإعدادية؛ وليقع في غرام خيال الظل الذي آثر والده الشيخ حمدي السعدي أحد شيوخ الطريقة الصوفية في دمشق، أن يدرّسه أفضل تدريس، مفضلاً إياه على شقيقيه «عادل وحلمي» اللذين عملا في الفرن تحت ضغط الحاجة وصعوبة الحياة.



    أيام الحرب العالمية الأولى تعرّف الطفل تيسير على فن الكراكوزاتي علي حبيب في سوق ساروجة الذي تتلمذ على يديه رائد المسرح الغنائي في سورية أبو خليل القباني «1833- 1902» ومن هذا الفن الجميل الذي كان من يؤديه يعرف في الموسيقا والموشحات والأدوار، كانت اللقاءات الأولى للسعدي مع أحلامه في الفن، ومن ثم تعلقه بالسينما الصامتة وأفلام شارلي شابلن.
    جاءت بعدها المرحلة التي درس فيها السعدي في مدرسة اللاييك في دمشق، لينتقل منها تحت ضغط الظروف المادية والحرب العالمية الثانية إلى المدرسة الإيطالية، وفي المدرسة العربية العليا تلقى هذا الفنان دروساً في اللغة العربية والفرنسية والتمثيل، حيث كان يستعير كتباً من المكتبة الظاهرية، ولاسيما كتابه الأثير على قلبه «حوادث دمشق» للبديري حلاق؛ ليقوم بطباعته عدة نسخ على الآلة الكاتبة، ومن ثم ليوزعه على أصدقائه.
    ساعات طويلة كان يمضيها الشاب في المكتبة لقراءة كتب لا يستطيع شراءها؛ إلا أنه وجد ضالته أخيراً مع الفرق المصرية التي عرفت وقتذاك بـ «الأجواق» وكانت تؤم دمشق وتقدم عروضها على مسرح «الأمبير» في بوابة الصالحية؛ وسينما الكوزموغراف في البحصة، فمن الفرق التي اشتغل معها السعدي كانت جوق فاطمة رشدي، وجوق عبد الحميد رشدي، ونجيب الريحاني، وفرقة رمسيس بإدارة يوسف وهبي؛ والتي كانت تقدم عروضها على مسرح سينما العباسية. يقول السعدي عن تلك المرحلة في كتاب «تيسير السعدي- ممثل بسبعة أصوات- منشورات دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008»: كنا نمضي السهرات في حارة اليهود حيث تقام الحفلات في البيوت العربية وتتضمن الحفلة الطرب والرقص لفرق منها ( بنات قطش) و(بنات مكنو) وهن مغنيات وراقصات وعازفات عود كنَّ يقدمن فنهن في الأعراس؛ وما أزال أذكر فصل القنياطي في (خيال الظل) وهذا الفصل يتحدث عن مشكلات مهنة القنياطي؛ فعند موته تجتمع النساء في العزاء وتغنين: (شلون تا مات طولو حصيرة وعرضو بساط، يا ربو ليش أختو..).
    عندما انتقل السعدي للدراسة في القاهرة في معهد التمثيل، حالت أوضاعه المالية دون إتمامه للدراسة؛ ليلتحق بعدها بمعهد السينما وليتخرج فيه بعد سنتين؛ ويعمل في الاستوديوهات السينمائية، وفي هذه الفترة تمكن هذا الفنان من الاطلاع على العديد من الكتب العربية المترجمة الخاصة بالمسرح؛ وأهمها (إعداد الممثل لقسطنطين ستانسلافسكي) كما تعرّف على المسارح التي كانت ناشطة في القاهرة آنذاك، وأهمها مسرح الريحاني وجورج أبيض؛ وتتلمذ على يد مصمم الرقص علي رضا، وشاهد أنشطة دار الأوبرا ومسرح الماجستيك، كما تعرف السعدي في قاهرة المعز إلى كبار الشخصيات في المجتمع والصحافة والفن، ليعود بعدها إلى سورية بتشجيع من محمد عبد القدوس الذي قال له: «هنا في مصر لن تكون مميزاً، فمثلك كثر، أما في بلدكَ فتستطيع أن تؤسس لفنٍ جديد». وبالفعل عاد السعدي إلى دمشق، ليؤسس الفرقة السورية للتمثيل والموسيقا عام 1947؛ بإدارة ممتاز الركابي؛ وهو العام الذي صادف فيه أوج نشاط الإذاعة السورية، وانتشار الراديو؛ ما ساعد أعضاءها على تقديم مسرحياتهم في إذاعة دمشق كموظفين فيها؛ ورغم الأوضاع السياسية غير المستقرة التي شهدتها سورية آنذاك من انقلابات عسكرية عديدة، دأبت الفرقة على تقديم عروضها. يقول السعدي عن بداية عمله مع الفرقة: حين دهم البلاد وباء الكوليرا نظمت الحكومة الوطنية حملة كبيرة لتوعية الشعب، وطلب المسؤولون من عبد الهادي الدركزلي أن يكتب للإذاعة في هذا الموضوع، فاستهل عمله بتمثيلية إذاعية سماها (إصابة مشتبهة) حيث نجحت هذه التمثيلية التي اشتهر فيها كل من أنور البابا- (أم كامل) وحسني تللو- (أبو فهمي) وشخصية (أبو إبراهيم- عبد السلام أبو الشامات)، وشخصية (أبو صياح) التي أداها عبد الهادي الدركزللي ومن بعده الفنان رفيق سبيعي، وشخصية (أم إبراهيم) التي أدتها الفنانة ماري اسبانيولي.
    كان لشيخ الممثلين السوريين دورٌ في تنشيط المسرح الشعبي الذي بدأ عروضه بمسرحية ( بيت للآجار) والتي كتبها حكمت محسن وقدمها السعدي مع فرقته على مسرح سينما فريال، ومسرحية «يوم من أيام الثورة 1925» التي أخرجها السعدي وعرضها في الهواء الطلق بمنطقة الغوطة، وعلى مسرح معرض دمشق الدولي- «استوديوهات قناة الدنيا حالياً».
    عمل السعدي في الإذاعة السورية وقدم العديد من البرامج والتمثيليات التي لاقت نجاحاً جماهيرياً منقطع النظير، ولاسيما تمثيلية «صابر وصبرية» التي قدمها وراء الميكرفون برفقة زوجته الراحلة صبا المحمودي؛ حيث ذاع صيته في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، لينتقل بعدها للعمل في إذاعة الشرق الأدنى التي تُعرف اليوم بإذاعة «بي بي سي»، ويحكي السعدي عن تلك الأيام فيقول: «كنتُ أذهب إلى فلسطين وكان يرافقني عازف البزق الشهير محمد عبد الكريم ليعزف هناك، وفي إذاعة الشرق الأدنى اطلعتُ على كتبٍ في الإخراج الإذاعي، وفن الإلقاء والكتابة». في السينما

    قدم الراحل مساهمات عديدة في السينما كان أبرزها فيلم «الهانم» الذي أنتجته آسية داغر وأخرجه هنري بركات عن رواية «بائعة الخبز» لألبرتو مورافيا، حيث أسند المخرج بركات دور الشاب الشامي لتيسير السعدي وجهاً لوجه مع فاتن حمامة ومحمد عبد القدوس، وبعد عودة السعدي إلى سورية وتأسيس المؤسسة العامة للسينما عام 1963، شارك الراحل في فيلم «الرجل-1968» كما عمل مديراً لدائرة المنوعات في التلفزيون العربي السوري، واشترك في العديد من المسلسلات والسهرات التلفزيونية كان أبرزها «الدنيا مضحك مبكي، أيام شامية».
    هكذا يودع فنان الخيال ظلاله، ملقياً تحية الوداع على مقاهي العاصمة التي أنشأته أول مرة بين خيام كراكوز وعيواظ، وصيحات جمهورها، ليمضي برحيله جيلٌ كاملٌ من ظرفاء الحارة الشامية وحكواتييها، غالباً مات تيسير وهو يضحك، محرّكاً دماه القديمة.. شاهراً زمن الأبيض والأسود في وجه كل عمى الألوان هذا..




يعمل...
X