إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

احتفظ بمشاكلك في جيب مثقوب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • احتفظ بمشاكلك في جيب مثقوب




    احتفظ بمشاكلك في جيب مثقوب


    منذ وقت ليس ببعيد, مررت بواحدة من تلك الفترات الكئيبة التي يواجهها الكثير منا من وقت لآخر. سقطة عنيفة مفاجأة في الخط البيئي للمعيشة, حينما يتوقف ويكسد كل شيء, وتخبو الطاقة, ويموت الحماس, وكان أثر ذلك على عملي مخيفا, وكنت كل يوم أطبق أسناني بإحكام وأتمتم :"سيعود للحياة اليوم بعض معانيها السابقة, يجب عليك أن تخترق تلك الكآبة, يجب عليك ذلك"
    ولكن الأيام العقيمة امتدت..وازداد الركود سوءا, وجاء الوقت الذي أيقنت فيه أنني كنت محتاجا للمساعدة..

    وكان الشخص الذي لجأت إليه طبيبا, ليس طبيب أمراض نفسية, بل طبيبا عاديا, وكان أكبر مني سنا, وتوجد تحت فظاظته الظاهرية حكمة وخبرة عظيمتان, فقلت له في خزي :"أنا لا أعرف ما بي, ولكن يبدو أني وصلت إلى نهاية طريق مسدود, فهل تستطيع مساعدتي"؟
    فقال ببطء :"لا أعرف.."

    وشبك أصابعه وحملق في مفكرا لمدة طويلة, ثم سألني على نحو غير متوقع, أين كنت تجد أسعد لحظاتك, وأنت طفل؟"

    فكررت وراءه :"وأنا طفل"؟

    ثم قلت :"لماذا"؟ وأكملت مجيبا "على الشاطئ, أعتقد ذلك, فقد كان لدينا كوخ صيفي هناك, وكنا جميعا نحبه "

    فأطل من النافذة, وشاهد أوراق الخريف وهي تتساقط ثم سألني :"هل أنت قادر على اتباع التعليمات ليوم واحد "؟

    قلت وأنا على استعداد لتجريب أي شيء :"أعتقد ذلك"

    قال لي :"حسنا إليك ما أريدك أن تفعله"

    فأخبرني أن أقود سيارتي إلى الشاطئ وحدي صباحا اليوم التالي, على أن أصل هناك قبل أن تتجاوز الساعة التاسعة, وأنه يمكنني أن آخذ معي شيئا للغداء ويجب علي ألا أقرأ, أو أكتب, أو أستمع إلى الراديو أو أتحدث مع أي شخص. وقال :"بالإضافة إلى ذلك سوف أصف لك دواء تتعاطاه كل ثلاث ساعات.."

    وانتزع أربع ورقات فارغة معدة لكتابة الأدوية, وكتب على كل منها كلمات بسيطة وطواها ورقمها وسلمها لي, ثم قال :" خذها في التاسعة صباحا والثانية عشر ظهراً والثالثة عصراً والسادسة مساءً"

    فسألته :"هل أنت جاد؟"

    فأطلق ضحكة قصيرة, وقال :"لن تظن أني أمزح عندما تتلقى فاتورة حسابي"

    وتبدأ الرحلة..

    وبقليل من الإقتناع قدت سيارتي إلى الشاطئ في صباح اليوم التالي, وقد كان خاليا تماما, كما هو مطلوب...وكانت الريح تهب شمالية شرقية, بدا البحر كئيبا وغاضبا, فجلست في السيارة وقد امتد اليوم كله خاويا أمامي, ثم أخرجت أول قصاصة ورقية مطوية, وكان مكتوبا عليها :"أنصت بعناية"

    فحملقت في الكلمتين, وفكرت في نفسي : ياللعجب لاشك أن الرجل مجنون! فقد حرم علي الموسيقى ونشرات الأخبار, والحوارات البشرية, فأي شيء آخر أسمع؟!

    رفعت رأسي, وأنْصَتُّ........لم يكن هناك أي صوت إلا صوت هدير البحر والمستمر, وصوت صياح أجش لأحد طيور النورس, وأزيز بعض الطائرات في السماء, وكانت هذه الأصوات كلها مألوفة..

    خرجت من السيارة, فأغلقت عصفة من الريح الباب محدثة صوت صفعة مفاجأة, وسألت نفسي : هل يفترض أن أنصت بعناية لأشياء من هذا القبيل؟

    تسلقت تلا ً رمليا, وألقيت نظرة على الشاطئ المهجور, وفي هذا المكان كان صوت خوار البحر عاليا جدا لدرجة أنه غطى على كل الأصوات الأخرى...إلا أنني فكرت فجأة في أنه لا شك في وجود أصوات أدنى من أخرى, مثل : الصوت الخشن الخفيض للرمال التي يجرفها الهواء, وهمسات الريح الواهنة في أعشاب التل, يحسها المنصت إذا اقترب بالقدر الكافي لسماعها.

    فأحنيت رأسي لأسفل في اندفاع, وأقحمتها في أجمة من العشب البحري, وأنا أشعر بسخافة شديدة, واكتشفت لحظتها اكتشافا, وهو أنك إذا أنصتّ بتركيز ستشعر بلحظة ضئيلة يتوقف فيها كل شيء في حالة انتظار, وفي لحظة السكون تلك, تتوقف الأفكار ويستريح العقل.

    رجعت ثانية إلى السيارة, وانسللت وراء عجلة القيادة مكررا, أنصت بعناية! وبينما كنت أنصت ثانية للهدير الغامض للبحر, وجدتني أفكر في غضبة عواصفه الشديدة, بيضاء المخالب (ذات الزبد الأبيض) ثم أدركت أنني كنت أفكر في أشياء أكبر من نفسي, وقد وجدت في ذلك ارتياحا.

    وعلى الرغم من ذلك فقد مر الصباح بطيئا, وشعرت بمدى قوة تعودي على الزج بنفسي في أي مشكلة, لدرجة أنني شعرت بالضياع بدون تلك العادة.

    وبحلول الظهر كانت الريح قد جرفت السحب بعيدا عن السماء, وكان للبحر بريق معدني لامع مهيج, وفتحت ورقة الدواء الثانية, ومرة أخرى جلست في السيارة نصف مستمتع, ونصف ساخط, فقد كان بالوقة ثلاث كلمات هذه المرة :"حاول الرجوع للخلف"

    للخلف إلى ماذا؟؟ من الواضح أنه يقصد إلى الماضي, ولكن لماذا, إذا كنت كل همومي تتعلق بالحاضر والمستقبل؟؟

    غادرت السيارة, وبدأت في التسكع بموازاة التل, وأنا أفكر مليا: بعثني الطبيب إلى الشاطئ لأنه مكان للذكريات السعيدة, فربما كان هذا هو ما يفترض أن أرجع إليه: ثروة السعادة التي تكمن خلفي نصف منسية.

    فقررت أن أتعامل مع هذه الذكريات الغامضة غير الواضحة كما كان سيفعل الرسام, فأنمق الألوان, وأوضح الحدود الفاصلة, وأختار أحداثا محددة, وأسترجع كافة التفاصيل التي أستطيع استرجاعها, وسأتخيل الناس كاملين بملابسهم وإيماءاتهم وسأنصت (بعناية) لنغمة أصواتهم الدقيقة ولصدى ضحكاتهم.

    كان المد ينحسر الآن, ولكن الأمواج المتكسرة على الشاطئ لم يزل دويها يسمع, وهكذا اخترت أن أرجع عشرين سنة غلى آخر رحلة صيد أسماك قمت بها مع أخي الأصغر, وكان قد توفي في الحرب العالمية الثانية ولكني وجدت أنني إذا أغمضت عيني وحاولت مجتهدا, فسوف أراه في حيويته المدهشة بل وسأرى المرح واللهفة في عينيه.

    وفي الواقع لقد رأيت الرحلة كلها: جانب الشاطئ المعقوف, عاجي اللون حيث كنا نصطاد, والجانب الشرقي من السماء الذي كانت تكسوه أشعة شروق الشمس, والأمواج الطويلة الهائلة التي كانت تحمل الزبد إلى الشاطئ في جلال وببطء, وشعرت بالماء المرتد من الشاطئ, وهو يضع دوامات دافئة حول ركبتي, ورأيت التقوس المفاجئ في صنارة أخي, عندما تعلقت بها سمكة, وسمعت صرخته المبتهجة, وشيئا فشيئا استرجعت الصورة كلها, واضحة وغير متغيرة من وراء أفق طلاء الزمن الشفاف...ثم تلاشت.

    جلست بعد ذلك منتصبا في بطء, وقلت في نفسي: حاول الرجوع للخلف, لقد كان الناس السعداء عادة أناسا مقتنعين واثقين من أنفسهم, ثم أليس من المحتمل تفجر ومضات خافتة من الطاقة, وينابيع صغيرة من القوة إذا أنت رجعت للماضي متعمدا ولامست السعادة؟

    ومرت تلك الفترة الثانية من اليوم بسرعة أكبر, وبينما بدأت الشمس انحدارها الطويل نزولا مع السماء, كان عقلي يجوب الماضي في توق شديد, معيدا معايشة بعض أجزائه, وكاشفا الأغطية عن أجزاء أخرى كانت قد نسيت تماما, فتذكرت أحداثا عبر كل السنين, وعلمت من وهج الدفء المفاجئ أن المعروف لا يتبدد, ولا يضيع تماما أبدا.

    بحلول الساعة الثالثة كان المد قد انحسر, ولم يكن صوت الموج إلا همسا متناغما كصوت تنفس جبار, مكثت في مأواي الرملي شاعرا بالإسترخاء, والقناعة, وبقليل من الرضا الذاتي, قائلا في نفسي: لقد كان تناول الأدوية التي وصفها الطبيب سهلا..

    ولكنني لم أكن متهيئا للوصفة التالية, فهذه المرة لم تكن الكلمات الثلاث اقتراحا لطيفا, بل أخذت شكل الأمر أكثر, كانت الكلمات :"أعد دراسة دوافعك"

    كان أول ردود أفعالي خالصا, فقلت لنفسي : لا يوجد ما يعيب في دوافعي, فأنا أريد أن أكون ناجحا, من ذا الذي لا يريد ؟! أريد أن أحظى بقدر معين من التقدير, ولكن كل الناس كذلك! وأريد أمانا أكثر مما أحظى به, ولم لا؟!


    وقال صوت خفيض في مكان ما بداخل عقلي: ربما لا تكون هذه الدوافع بالجودة الكافية, وربما كان هذا سبب توقف العجلات عن الدوران..

    قبضت قبضة من الرمال, وتركتها تنساب من بين أصابعي هائما في الماضي, عندما كان عملي ينجح, كان هناك دائما شيء تلقائي فيه, شيء غير مرسوم, شيء حر, أما في الآونة الأخيرة, فقد كان محسوبا ووافيا, وميتا, لماذا؟؟

    لأنني كنت دائما أنظر وراء الوظيفة نفسها إلى المكافآت التي تمنيت أن تجلبها لي, لم يعد العمل غاية في حد ذاته, بل أصبح وسيلة للحصول على المال, ودفع الفواتير, وضاع الشعور بتقديم شيء, بمساعدة الناس, بتقديم إسهام, ضاع في محاولة مسعورة للتعلق بالأمان.


    وفي لمحة من اليقين أدركت أنه إذا كانت دوافع المرء خاطئة, فلا يمكن أن يصح شيء, ولا فرق في ذلك ما إذا كنت ساعي بريد, أو مصفف شعر, أو مندوب مبيعات شركة تأمين, أو أمّا ملائمة لبيتها, أو أبا أو اي شيء آخر.


    فطالما تشعر أنك تخدم الآخرين, فستؤدي عملك بنجاح, أما عندما تهتم فقط بمساعدة نفسك, فإنك تؤدي بدرجة أقل, وهذا قانون لا يلين تماما كقانون الجاذبية.


    وجلست هناك لمدة طويلة, وسمعت من بعيد عند حاجز الأمواج خرير تكسر الأمواج, وقد تغير إلى هدير مكتوم مع عودة المد, ومن ورائي كانت أشعة الضوء أفقية ونفد وقتي على الشاطئ, وانتابني شعور بالإعجاب الغابط بالدكتور, وبالأدوية التي ابتكرها بمهارة, وعفوية شديدتين, وأدركت الآن أن تلك الأدوية بها تسلسلا علاجيا, قد يكون ذا قيمة كبيرة لأي إنسان يواجه أي عقبة.


    (أنصت بعناية)....لتهدئ العقل المهتاج, وتبطئه, ولتحول التركيز عن المشاكل الداخلية إلى الأشياء الخارجية


    (حاول الرجوع للخلف)....بما أن العقل البشري لا يستطيع التفكير في فكرتين في وقت واحد, فإنك تمحو قلق الحاضر عندما تلامس سعادة الماضي.


    (أعد دراسة دوافعك)....وكان هذا هو جوهر المرء مع قدراته وضميره, ولكن القيام بذلك يتطلب أن يكون العقل صافيا, ومتفتحا, ومن هنا تظهر فائدة ساعات الهدوء الست التي سبقت ذلك.

    كان الجانب الغربي من السماء كلهيب قرمزي, عندما أخرجت آخر قصاصة ورقية, وكان بها أربع كلمات هذه المرة, فمشيت ببطء بعيدا على الشاطئ, وتوقفت تحت علامة المياه الضحلة بياردات قليلة, وقرأت الكلمات ثانية : اكتب مشاكلك على الرمال.


    تركت الورقة تطير مع الريح بعيدا, وانحنيت, والتقطت كسرة صدفة, وتحت القبة السماوية الزرقاء, وأنا جاث على ركبتي, كتبت عدة كلمات على الرمال, واحدة فوق الأخرى, ثم مشيت بعيدا عنها, ولم أنظر ورائي, فلقد كتبت مشاكلي على الرمال وكان المد يرتفع...
    مم قرأت وراق لي...

    اللهم اجمعنا على طاعتك وفي جنتك...

  • #2
    مشكورة سلمى
    على هذا الطرح الرائع والمميز

    تعليق


    • #3
      تسلمي سوريا عشقي شاكرة الك مرورك الطيب يا غالية..
      اللهم اجمعنا على طاعتك وفي جنتك...

      تعليق


      • #4
        رائعة تسلم الايادي



        تعليق


        • #5
          أهلا حنون يسلمهن حبوبة..
          اللهم اجمعنا على طاعتك وفي جنتك...

          تعليق


          • #6
            يعطيكي العافية حجة وماننحرم جديدك

            تعليق

            يعمل...
            X