التشتوشية الثامنة والعشرون
أبو عصام
*****************
الناس هوائيون !!
وهذا المصطلح في علم النفس – حسب قراءاتي – يعني أنَّهم سريعو التأثر، تغلبهم العواطف مهما بلغ سذاجة الموقف أمامهم .
وبالتأكيد الناس في أيامنا ينفعلون لأشياء لقيمة لها ولا ينفعلون لأشياء لها أهميَّةٌ كبرى في حياتهم.
فمثلاً قد تشتم أبا الرجل فيبادلك السباب بأقذع منه بل ربما يقوم ليضربك، ولو سُبَّ آباء الآخرين لم يبالِ بل قد يضحك ويهزُّ رأسه كأنَّ شيئاً لا يعنيهِ.
ولئن كان معظم الناس تافهين مرةً؛ فحرمنا وشلَّتها أتفه منهم ألف مرةٍ.
***********************
في اليوم الأول من رمضان حدثت مناحةٌ في دارنا !!
كنت نائماً في أمان الله بعد الظهر بعد تعب العمل في انتظار أذان المغرب، إذ أفزعني صوت عويل أم سعيد .
هرعت مذعوراً إلى الصالة لأجدها جالسةً تلطم رأسها وتبكي بصوتٍ يذكرك بموسيقا أفلام الرعب..
فتفاءلت خيراً من أنَّ البلدوزر قد فعلتها وأراحتنا من همومها في دنياها، وذهبتْ لتقلق راحة الأموات أعانهم الله .
قلْتُ بصوتٍ منخفضٍ : " خيراً يا أم سعيد " ..
رفعت رأسها المنكوش الشعر وشرقَتْ مخاطها، والدموع تسبح على وجهها وقالت لي : " لقد مات " .
اعتقدْتُ أنَّها أخطأت اللفظ وقالت (مات) بالمذكر على أمها والواجب التأنيث –أليس هذا صحيحاً يا أهل اللغة ؟- وإن كانت أمها تصح بلفظ المذكر أكثر منها بالمؤنث كما تعلمون.
قلت متظاهراً بالجزع وأنا أكتم فرحتي فقد وقر في ظنِّي أنَّ أمها قد قُبضت لأنَّ هذا البكاء لا يكون إلا للأم، وانتهت متاعبي معها:
" متى ؟ " .
قالت : " اليوم ! " .
قلْتُ : " في أي ساعةٍ ؟ " .
قالت : " قبل نصف ساعةٍ " .
قلْتُ لها : " سألبس ثيابي ريثما تجهزين نفسك " .
قالت وهي تتمخط وتمسح دموعها : " إلى أين ؟ "
قلْتُ : " إلى بيت أهلك " .
قالتْ بدهشةٍ : " لماذا ؟ " .
قلْتُ : " لنقوم بواجبنا تجاه المرحومة " .
قالتْ : " أي مرحومةٍ؟ " .
قلْتُ : " أمك " .
زأرتْ كنباح كلبٍ عقور : " الله يخرب بيتك، الدنيا رمضان وتتمنَّى لأمي الموت".
قلْتُ متلعثماً : " ولكنَّني ظننتُ أنَّك قلْتِ إنَّها ماتت " .
صاحتْ : " قلت مات ولم أقل ماتتْ " .
قلْتُ: " من مات؟ " .
قالتْ : " أبو عصام " .
قلْتُ ببلاهةٍ: " زوج خالتي " .
فقد كان اسمه (أبو عصام) أيضاً..
صاحتْ متضايقةً: " أبو عصام في باب الحارة " .
ولأنني لم أكن أتابع المسلسلات في التلفاز قلت بعفويةٍ : " أي باب حارة؟".
نظرت لي مندهشةً من غبائي وصاحت : " اذهب من وجهي قبل أن أفتك بك".
ولأنَّها كانت صائمةً جائعةً عرفت أنَّها قد تفعل ذلك وتلتهمني ..
ففررْتُ منها وأنا لم أفهم شيئاً بعد !!
**************************************
كانت سهرة حرمنا في الليلة الأولى من رمضان حافلةً ..
فقد اجتمعت صديقاتها فافي وناغي وماكي اجتماعاً خطيراً على مستوى القاعدة، للتباحث بشأن أبي عصام!!
وقد عرفت من هو أبو عصام فيما بعد ..
حرمنا: بكيْتُ دموعاً كثيرةً على أبي عصام.
ناغي: المسلسل لا قيمة له دونه.
ماكي: لم أتابع المسلسل بعد علمي بموته.
فافي: ليس من حق المخرج أن يقتله.
دخلت عليهنَّ بأكواب السوس .. وأصغيْتُ لهرائهنَّ.
قلت : هذه سنة الله في الأرض، الموت لا بد منه.
فافي: ولكن المخرج يفعل ما يشاء بالأحداث.
ماكي: لذا كان يجب الإبقاء على أبي عصام.
لم أتحمَّلْ تفاهة الحديث فخرجْتُ .. وذهبْتُ إلى المطبخ أتابع الجلي.
*******************************
وبعد نصف ساعة أتاني صوت حرمنا :
- القهوة يا أبا سعيد !!
وعندما دخلت عليهنَّ بفناجين القهوة وجدتهنَّ مبتسمات خلاف بداية الاجتماع حيث كنَّ عابسات..
وبعدما وزَّعْت القهوة قلت :
- هل تقبلتنَّ فكرة وفاة أبي عصام؟
قالت حرمنا : بالعكس لا قيمة للمسلسل دونه.
قلْتُ : وبعد ..
فافي : سنتصل بإدارة تلفزيون ( mbc ) .
قلْتُ : ولماذا ؟
ماكي : سنطلب منهم إيقاف عرض المسلسل أو يعود أبو عصام.
وشفعت حرمنا القول بالفعل وبدأت تتصل، وكادت عيناي تقفزان من محجريهما لأنَّ قيمة الاتصال على حسابي، ولا أدري أي حيزبون منهنَّ أعطتها رقم القناة، ودعوْتُ الله سراً ألاَّ ينجح الاتصال.
وبِما أنَّكم تعلمون سوء حظي !
فقد نجح الاتصال من أول مرةٍ وبدأت الحديث..
فخرجْتُ قبل أن أصاب بسكتةٍ قلبيةٍ.
بعد نصف ساعةٍ بالتمام والكمال وأنا واقف في الممر أصغي لحديث التفاهة على الهاتف ودموع الغيظ تنهمر من عيني، وضعت حرمنا السمَّاعة وهي تغلي غيظاً وتقول:
- الأوغاد رفضوا الاستماع لمطلبنا.
ناغي : ماذا قالوا لكِ؟
حرمنا : قالوا لي لو شئت أن تتابعي المسلسل دون أبي عصام فافعلي أو لا تشاهدي المسلسل، وبعد جدالٍ أغلق الهاتف في وجهي.
ارتسمت على شفتي ابتسامة قهرٍ فقد عرف الرجل كيف يخرسها؟
وأجفلتُ على صياح حرمنا : لا لن نسكت !!
فافي : ماذا سنفعل؟
ماكي: الأفضل ألاَّ نشاهد المسلسل.
أم سعيد : لن نرضخ لهم.
ناغي : أنا مع أم سعيد لن نرميَ سلاحنا أمامهم.
ماكي : ما الحل؟
حرمنا : سنجمع تواقيع كل من نعرفه ثمَّ نرفعها لإدارة المسلسل لإعادة أبي عصام.
لم أتحمل كل هذه البلاهة فدخلْتُ وقلْتُ :
- آمل ألاَّ تنسيْنَ أنَّ المسلسل انتهى تمثيله وعملكم لا قيمة له.
تنبهن إلى هذه النقطة ووجمن وهن ينظرن لي كأنَّهنَّ يردْنَ ضربي، وهل أنا السبب في موت أبي عصام ؟!
ولأنَّ حرمنا حمقاء فلم يخطر ببالها حل، ولكن الداهية ماكي قالت:
- على الأقل يرجعونه الجزء القادم .
*************************************
بدأت أغرب وأتفه عملية إحياء شخصية تمثيلية !!
وكأنَّ الكون سيتوقف على هذا المدعو أبي عصام ..
ولتفاهة الناس –كما قلت في البداية حيث يهتمون بأشياء لا قيمة لها- نجحت عصابة المافيا بزعامة أم سعيد في جمع أكثر من خمسين ألف توقيع بالاسم الكامل لكل صاحب أو صـــاحــبة توقيع..
كل واحدةٍ منهنَّ كلَّمتْ أصدقاءها ومعارفها وأقاربها، وكل واحدٍ من هؤلاء فعل الشيء ذاته بحماسٍ منقطع النظير ..
حتَّى صرت أحسد أبا عصام على هذه المحبة ..
وتساءلْتُ لِمَ لا يقوم الناس بالشيء ذاته عندما يُقتل شخصٌ ما على يد عصابة الصهاينة أو الأمريكان؟!
ولكنَّكم تعلمون انشغال الخلق بتوافه الأمور.
بل امتدَّ نشاط العصابة – وبغرابةٍ - للمحافظات الأخرى من خلال أقارب لهنَّ في معظم المدن، وتفاعل أبناء المحافظات الأخرى معهنَّ، حتَّى جمعن نصف مليون توقيع..
*******************
وضعت حرمنا مجلداً ضخماً من الأوراق يعادل في ضخامته معجم لسان العرب المكون من عشرة أجزاء في مكتبة منزلنا، ذلك الكتاب الذي علاه الغبار واصفرَّت أوراقه ..
قالت ماكي: بقي أن نوصل التواقيع للتلفاز في الشام.
واختلفن فيمن تذهب للشام؟!
علا صياحهنَّ وكل واحدةٍ ترمي على الأخرى وأنا أضحك من فشل مهمتهنَّ.
ثم اقتربْن
وتهامسْنَ
وعبسْنَ
ثم نظرْن لي بمكر صويحبات يوسف عليه السلام..
زأرت حرمنا: استعدَّ للسفر غداً للشام.
قلت : محال ... وعملي ..
قالت : خذ إجازة ..
قلت : استهلكت جميع إجازاتي بسبب أعمال المنزل..
قالت : خذ إجازة عارضة..
ارتفع الدم لرأسي : سافرن أنتنَّ ..
قالت ماكي : رمضان صعب علينا، وأزواجنا يريدون منا كل يوم طبخ طعام.. وطعام موائد رمضان يحتاج وقتاً طويلاً منَّا.
صحت بزوجتي الخائبة : يخفن على شعور أزواجهنَّ وأما أنا يا أم سعيد فلا تهتمين بي..
قالت أم سعيد : ستعود قبل الإفطار وأجهز لك أحلى فطور.
انتفخت أوداجي وأنا أصرخ :
- لن أذهب ولو قامت القيامة.. حلو والله.. أنا لا أهتم بأبي عصام ولا غيره من أموركن السخيفة أبداً.. وتلزمنني بالذهاب لأجله.. عجب !!
***********************
كنت نائماً عندما اقترب مني سائق الباص وقال لي :
- يا أستاذ وصلنا الشام.
أجفلْت محملقاً به بدهشةٍ ، للوهلة الأولى لم أعرف لماذا أنا في الشام؟
ولأنني كنت طوال الوقت أحلم بأم سعيد وهي توصيني ألاَّ أعودَ خائباً.
ونزلْتُ من الباص متثاقلاً عندما لحق بي السائق:
- يا أستاذ نسيت هذه الأوراق !!
ناولني إياها فكدْتُ أقع من ثقلها وقال لي :
- هل أنت دكتور في الجامعة لتحمل كل هذه الأوراق معك ؟
قلْتُ وأنا أتثاءب وأنوء بحملي :
- هذه الأوراق للتلفزيون .
ابتسم وقال : حضرتك كاتب سيناريو.
قلْتُ : كاتب سيناريو.. أنت تمزح.. هذه تواقيع لإعادة أبي عصام إلى مسلسل باب الحارة.
نظر لي برهةً ثم استدار عائداً وهو يقول :
- الله يشفيك ..
******************************
تعامل معي أهل التلفزيون بلباقةٍ وأفهموني أنهم لا علاقة لهم بالمسلسل، فكدت أعود أدراجي إلى اللاذقية لولا تذكُّري أم سعيد وغضبها الذي قد يعدل غضبة ثورٍ في حلبات مصارعة الثيران لو عدت خائباً ..
ألححت عليهم ورفضت المغادرة ..
وذهبت محاولاتهم أدراج الرياح ..
****************************
صاح بي ذلك الرجل الجالس في طرف الغرفة :
- يا ولد تعال لمشاهدة التلفاز ..
جئت لابساً الثوب الأبيض وقلت :
- أولاً لست ولداً ...
قال لي : بل ولد لأنك لم تضع على رأسك طنجرةً مثلي ..
نظرت إلى طنجرة الضغط التي وضعها على رأسه، وتعجَّبْتُ كيف يحتمل ثقلها؟ وقلت :
- لم جاؤوا بك هنا؟
قال لي : حزنْتُ لموت الإدعشري من سنتين وصرت ألطم وأصرخ وأطلب بإرجاعه للحياة،فجاؤوا بي إلى هنا ..
ولم أعرف من هو الإدعشري !!
ولكنني تذكرت حكايتي .
قال لي : وأنت يا ولد لم جاؤوا بك هنا دون أبيك؟
قلت : أبي ميت.
مسحْتُ دمعتي وأنا أتذكر أبي الذي نصحني ألا أتزوج من العقرب حرمنا وتابعْت:
- كنت أريد إعادة أبي عصام إلى مسلسل باب الحارة.. وتحت إلحاحي في مبنى التلفزيون لم يجدوا إلا إحضاري إلى هنا ..
سكت برهةً وكأنه لم يستوعب ما قلته له ثم قال: هل مات أبو عصام ؟
قلْتُ: نعم ، أرأيْت الحماقة التي سبَّبتْ مجيئي إلى هنا؟
نزع طنجرة الضغط بغتة عن رأسه ورماني بها ولو لا لطف الله لأصابتني وقتلني، وأصابت التلفاز -الذي كان قد بدأ بعرض مسلسل باب الحارة – وكسرته، وهو يصيح ويبكي:
- يا حرام يا أبو عصام ..
وطفق يبكي كالأطفال.. وإذا بكل من كان في الغرفة لمشاهدة التلفاز وعددهم فوق الخمسين يبكون معه والأصوات تصم أذني..
وانزويْت في الغرفة خائفاً منهم.
الله ينتقم منك يا أم سعيد وفافي وماكي وناغي ونصف المليون توقيع!!
أبو عصام
*****************
الناس هوائيون !!
وهذا المصطلح في علم النفس – حسب قراءاتي – يعني أنَّهم سريعو التأثر، تغلبهم العواطف مهما بلغ سذاجة الموقف أمامهم .
وبالتأكيد الناس في أيامنا ينفعلون لأشياء لقيمة لها ولا ينفعلون لأشياء لها أهميَّةٌ كبرى في حياتهم.
فمثلاً قد تشتم أبا الرجل فيبادلك السباب بأقذع منه بل ربما يقوم ليضربك، ولو سُبَّ آباء الآخرين لم يبالِ بل قد يضحك ويهزُّ رأسه كأنَّ شيئاً لا يعنيهِ.
ولئن كان معظم الناس تافهين مرةً؛ فحرمنا وشلَّتها أتفه منهم ألف مرةٍ.
***********************
في اليوم الأول من رمضان حدثت مناحةٌ في دارنا !!
كنت نائماً في أمان الله بعد الظهر بعد تعب العمل في انتظار أذان المغرب، إذ أفزعني صوت عويل أم سعيد .
هرعت مذعوراً إلى الصالة لأجدها جالسةً تلطم رأسها وتبكي بصوتٍ يذكرك بموسيقا أفلام الرعب..
فتفاءلت خيراً من أنَّ البلدوزر قد فعلتها وأراحتنا من همومها في دنياها، وذهبتْ لتقلق راحة الأموات أعانهم الله .
قلْتُ بصوتٍ منخفضٍ : " خيراً يا أم سعيد " ..
رفعت رأسها المنكوش الشعر وشرقَتْ مخاطها، والدموع تسبح على وجهها وقالت لي : " لقد مات " .
اعتقدْتُ أنَّها أخطأت اللفظ وقالت (مات) بالمذكر على أمها والواجب التأنيث –أليس هذا صحيحاً يا أهل اللغة ؟- وإن كانت أمها تصح بلفظ المذكر أكثر منها بالمؤنث كما تعلمون.
قلت متظاهراً بالجزع وأنا أكتم فرحتي فقد وقر في ظنِّي أنَّ أمها قد قُبضت لأنَّ هذا البكاء لا يكون إلا للأم، وانتهت متاعبي معها:
" متى ؟ " .
قالت : " اليوم ! " .
قلْتُ : " في أي ساعةٍ ؟ " .
قالت : " قبل نصف ساعةٍ " .
قلْتُ لها : " سألبس ثيابي ريثما تجهزين نفسك " .
قالت وهي تتمخط وتمسح دموعها : " إلى أين ؟ "
قلْتُ : " إلى بيت أهلك " .
قالتْ بدهشةٍ : " لماذا ؟ " .
قلْتُ : " لنقوم بواجبنا تجاه المرحومة " .
قالتْ : " أي مرحومةٍ؟ " .
قلْتُ : " أمك " .
زأرتْ كنباح كلبٍ عقور : " الله يخرب بيتك، الدنيا رمضان وتتمنَّى لأمي الموت".
قلْتُ متلعثماً : " ولكنَّني ظننتُ أنَّك قلْتِ إنَّها ماتت " .
صاحتْ : " قلت مات ولم أقل ماتتْ " .
قلْتُ: " من مات؟ " .
قالتْ : " أبو عصام " .
قلْتُ ببلاهةٍ: " زوج خالتي " .
فقد كان اسمه (أبو عصام) أيضاً..
صاحتْ متضايقةً: " أبو عصام في باب الحارة " .
ولأنني لم أكن أتابع المسلسلات في التلفاز قلت بعفويةٍ : " أي باب حارة؟".
نظرت لي مندهشةً من غبائي وصاحت : " اذهب من وجهي قبل أن أفتك بك".
ولأنَّها كانت صائمةً جائعةً عرفت أنَّها قد تفعل ذلك وتلتهمني ..
ففررْتُ منها وأنا لم أفهم شيئاً بعد !!
**************************************
كانت سهرة حرمنا في الليلة الأولى من رمضان حافلةً ..
فقد اجتمعت صديقاتها فافي وناغي وماكي اجتماعاً خطيراً على مستوى القاعدة، للتباحث بشأن أبي عصام!!
وقد عرفت من هو أبو عصام فيما بعد ..
حرمنا: بكيْتُ دموعاً كثيرةً على أبي عصام.
ناغي: المسلسل لا قيمة له دونه.
ماكي: لم أتابع المسلسل بعد علمي بموته.
فافي: ليس من حق المخرج أن يقتله.
دخلت عليهنَّ بأكواب السوس .. وأصغيْتُ لهرائهنَّ.
قلت : هذه سنة الله في الأرض، الموت لا بد منه.
فافي: ولكن المخرج يفعل ما يشاء بالأحداث.
ماكي: لذا كان يجب الإبقاء على أبي عصام.
لم أتحمَّلْ تفاهة الحديث فخرجْتُ .. وذهبْتُ إلى المطبخ أتابع الجلي.
*******************************
وبعد نصف ساعة أتاني صوت حرمنا :
- القهوة يا أبا سعيد !!
وعندما دخلت عليهنَّ بفناجين القهوة وجدتهنَّ مبتسمات خلاف بداية الاجتماع حيث كنَّ عابسات..
وبعدما وزَّعْت القهوة قلت :
- هل تقبلتنَّ فكرة وفاة أبي عصام؟
قالت حرمنا : بالعكس لا قيمة للمسلسل دونه.
قلْتُ : وبعد ..
فافي : سنتصل بإدارة تلفزيون ( mbc ) .
قلْتُ : ولماذا ؟
ماكي : سنطلب منهم إيقاف عرض المسلسل أو يعود أبو عصام.
وشفعت حرمنا القول بالفعل وبدأت تتصل، وكادت عيناي تقفزان من محجريهما لأنَّ قيمة الاتصال على حسابي، ولا أدري أي حيزبون منهنَّ أعطتها رقم القناة، ودعوْتُ الله سراً ألاَّ ينجح الاتصال.
وبِما أنَّكم تعلمون سوء حظي !
فقد نجح الاتصال من أول مرةٍ وبدأت الحديث..
فخرجْتُ قبل أن أصاب بسكتةٍ قلبيةٍ.
بعد نصف ساعةٍ بالتمام والكمال وأنا واقف في الممر أصغي لحديث التفاهة على الهاتف ودموع الغيظ تنهمر من عيني، وضعت حرمنا السمَّاعة وهي تغلي غيظاً وتقول:
- الأوغاد رفضوا الاستماع لمطلبنا.
ناغي : ماذا قالوا لكِ؟
حرمنا : قالوا لي لو شئت أن تتابعي المسلسل دون أبي عصام فافعلي أو لا تشاهدي المسلسل، وبعد جدالٍ أغلق الهاتف في وجهي.
ارتسمت على شفتي ابتسامة قهرٍ فقد عرف الرجل كيف يخرسها؟
وأجفلتُ على صياح حرمنا : لا لن نسكت !!
فافي : ماذا سنفعل؟
ماكي: الأفضل ألاَّ نشاهد المسلسل.
أم سعيد : لن نرضخ لهم.
ناغي : أنا مع أم سعيد لن نرميَ سلاحنا أمامهم.
ماكي : ما الحل؟
حرمنا : سنجمع تواقيع كل من نعرفه ثمَّ نرفعها لإدارة المسلسل لإعادة أبي عصام.
لم أتحمل كل هذه البلاهة فدخلْتُ وقلْتُ :
- آمل ألاَّ تنسيْنَ أنَّ المسلسل انتهى تمثيله وعملكم لا قيمة له.
تنبهن إلى هذه النقطة ووجمن وهن ينظرن لي كأنَّهنَّ يردْنَ ضربي، وهل أنا السبب في موت أبي عصام ؟!
ولأنَّ حرمنا حمقاء فلم يخطر ببالها حل، ولكن الداهية ماكي قالت:
- على الأقل يرجعونه الجزء القادم .
*************************************
بدأت أغرب وأتفه عملية إحياء شخصية تمثيلية !!
وكأنَّ الكون سيتوقف على هذا المدعو أبي عصام ..
ولتفاهة الناس –كما قلت في البداية حيث يهتمون بأشياء لا قيمة لها- نجحت عصابة المافيا بزعامة أم سعيد في جمع أكثر من خمسين ألف توقيع بالاسم الكامل لكل صاحب أو صـــاحــبة توقيع..
كل واحدةٍ منهنَّ كلَّمتْ أصدقاءها ومعارفها وأقاربها، وكل واحدٍ من هؤلاء فعل الشيء ذاته بحماسٍ منقطع النظير ..
حتَّى صرت أحسد أبا عصام على هذه المحبة ..
وتساءلْتُ لِمَ لا يقوم الناس بالشيء ذاته عندما يُقتل شخصٌ ما على يد عصابة الصهاينة أو الأمريكان؟!
ولكنَّكم تعلمون انشغال الخلق بتوافه الأمور.
بل امتدَّ نشاط العصابة – وبغرابةٍ - للمحافظات الأخرى من خلال أقارب لهنَّ في معظم المدن، وتفاعل أبناء المحافظات الأخرى معهنَّ، حتَّى جمعن نصف مليون توقيع..
*******************
وضعت حرمنا مجلداً ضخماً من الأوراق يعادل في ضخامته معجم لسان العرب المكون من عشرة أجزاء في مكتبة منزلنا، ذلك الكتاب الذي علاه الغبار واصفرَّت أوراقه ..
قالت ماكي: بقي أن نوصل التواقيع للتلفاز في الشام.
واختلفن فيمن تذهب للشام؟!
علا صياحهنَّ وكل واحدةٍ ترمي على الأخرى وأنا أضحك من فشل مهمتهنَّ.
ثم اقتربْن
وتهامسْنَ
وعبسْنَ
ثم نظرْن لي بمكر صويحبات يوسف عليه السلام..
زأرت حرمنا: استعدَّ للسفر غداً للشام.
قلت : محال ... وعملي ..
قالت : خذ إجازة ..
قلت : استهلكت جميع إجازاتي بسبب أعمال المنزل..
قالت : خذ إجازة عارضة..
ارتفع الدم لرأسي : سافرن أنتنَّ ..
قالت ماكي : رمضان صعب علينا، وأزواجنا يريدون منا كل يوم طبخ طعام.. وطعام موائد رمضان يحتاج وقتاً طويلاً منَّا.
صحت بزوجتي الخائبة : يخفن على شعور أزواجهنَّ وأما أنا يا أم سعيد فلا تهتمين بي..
قالت أم سعيد : ستعود قبل الإفطار وأجهز لك أحلى فطور.
انتفخت أوداجي وأنا أصرخ :
- لن أذهب ولو قامت القيامة.. حلو والله.. أنا لا أهتم بأبي عصام ولا غيره من أموركن السخيفة أبداً.. وتلزمنني بالذهاب لأجله.. عجب !!
***********************
كنت نائماً عندما اقترب مني سائق الباص وقال لي :
- يا أستاذ وصلنا الشام.
أجفلْت محملقاً به بدهشةٍ ، للوهلة الأولى لم أعرف لماذا أنا في الشام؟
ولأنني كنت طوال الوقت أحلم بأم سعيد وهي توصيني ألاَّ أعودَ خائباً.
ونزلْتُ من الباص متثاقلاً عندما لحق بي السائق:
- يا أستاذ نسيت هذه الأوراق !!
ناولني إياها فكدْتُ أقع من ثقلها وقال لي :
- هل أنت دكتور في الجامعة لتحمل كل هذه الأوراق معك ؟
قلْتُ وأنا أتثاءب وأنوء بحملي :
- هذه الأوراق للتلفزيون .
ابتسم وقال : حضرتك كاتب سيناريو.
قلْتُ : كاتب سيناريو.. أنت تمزح.. هذه تواقيع لإعادة أبي عصام إلى مسلسل باب الحارة.
نظر لي برهةً ثم استدار عائداً وهو يقول :
- الله يشفيك ..
******************************
تعامل معي أهل التلفزيون بلباقةٍ وأفهموني أنهم لا علاقة لهم بالمسلسل، فكدت أعود أدراجي إلى اللاذقية لولا تذكُّري أم سعيد وغضبها الذي قد يعدل غضبة ثورٍ في حلبات مصارعة الثيران لو عدت خائباً ..
ألححت عليهم ورفضت المغادرة ..
وذهبت محاولاتهم أدراج الرياح ..
****************************
صاح بي ذلك الرجل الجالس في طرف الغرفة :
- يا ولد تعال لمشاهدة التلفاز ..
جئت لابساً الثوب الأبيض وقلت :
- أولاً لست ولداً ...
قال لي : بل ولد لأنك لم تضع على رأسك طنجرةً مثلي ..
نظرت إلى طنجرة الضغط التي وضعها على رأسه، وتعجَّبْتُ كيف يحتمل ثقلها؟ وقلت :
- لم جاؤوا بك هنا؟
قال لي : حزنْتُ لموت الإدعشري من سنتين وصرت ألطم وأصرخ وأطلب بإرجاعه للحياة،فجاؤوا بي إلى هنا ..
ولم أعرف من هو الإدعشري !!
ولكنني تذكرت حكايتي .
قال لي : وأنت يا ولد لم جاؤوا بك هنا دون أبيك؟
قلت : أبي ميت.
مسحْتُ دمعتي وأنا أتذكر أبي الذي نصحني ألا أتزوج من العقرب حرمنا وتابعْت:
- كنت أريد إعادة أبي عصام إلى مسلسل باب الحارة.. وتحت إلحاحي في مبنى التلفزيون لم يجدوا إلا إحضاري إلى هنا ..
سكت برهةً وكأنه لم يستوعب ما قلته له ثم قال: هل مات أبو عصام ؟
قلْتُ: نعم ، أرأيْت الحماقة التي سبَّبتْ مجيئي إلى هنا؟
نزع طنجرة الضغط بغتة عن رأسه ورماني بها ولو لا لطف الله لأصابتني وقتلني، وأصابت التلفاز -الذي كان قد بدأ بعرض مسلسل باب الحارة – وكسرته، وهو يصيح ويبكي:
- يا حرام يا أبو عصام ..
وطفق يبكي كالأطفال.. وإذا بكل من كان في الغرفة لمشاهدة التلفاز وعددهم فوق الخمسين يبكون معه والأصوات تصم أذني..
وانزويْت في الغرفة خائفاً منهم.
الله ينتقم منك يا أم سعيد وفافي وماكي وناغي ونصف المليون توقيع!!
تعليق